فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (13):

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)}
المبصرة: الظاهرة البينة. جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها. ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار: كل ناظر فيها من كافة أولي العقل، وأن يراد إبصار فرعون وملئه. لقوله: {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] أو جعلت كأنها تبصر فتهدي، لأنّ العمي لا تقدر على الاهتداء، فضلاً أن تهدي غيرها. ومنه قولهم: كلمة عيناء، وكلمة عوراء، لأن الكلمة الحسنة ترشد، والسيئة تغوي. ونحوه قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] فوصفها بالبصارة، كما وصفها بالإبصار.
وقرأ عليّ بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة: {مَبصرة}، وهي نحو: مجبنة ومبخلة ومجفرة، أي: مكاناً يكثر فيه التبصر.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}
الواو في {واستيقنتها} واو الحال، وقد بعدها مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله تعالى: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عالين} [المؤمنون: 46]، {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون} [المؤمنون: 47] وقرئ: {عليا} و {عليا} بالضم والكسر، كما قرئ: {عتيا}، و {عتيا}، وفائدة ذكر الأنفس: أنهم جحدوها بألسنتهم، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان، وقد قوبل بين المبصرة والمبين، وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله، ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً مكشوفاً لا شبهة فيه.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)}
{عِلْمًا} طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً.
فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا}. والكثير المفضل عليه: من لم يؤت علماً. أو من لم يؤت مثل علمهما. وفيه: أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم. وأجزل القسم، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباد الله، كما قال: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} [المجادلة: 11]، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ورثةُ الأنبياءِ» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله. وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم، منها: أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم. وفيها التذكير بالتواضع، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم. وما أحسن قول عمر: كلّ الناسِ أفقهَ منْ عمر.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)}
ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه- وكانوا تسعة عشر- وكان داود أكثر تعبداً، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله {وَقَالَ ياأيها الناس} تشهيراً لنعمة الله، وتنويهاً بها، واعترافاً بمكانها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور. والمنطق: كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف، المفيد وغير المفيد. وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم، وقالت العرب: نطقت الحمامة، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته، والذي علمه سليمان من منطق الطير: هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه. ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاووس، فقال يقول: كما تدين تدان. وصاح هدهد، فقال يقول: استغفروا الله يا مذنبين. وصاح طيطوي، فقال يقول: كل حيّ ميت، وكل جديد بال. وصاح خطاف فقال يقول: قدّموا خيراً تجدوه. وصاحت رخمة، فقال تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وصاح قمري، فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى. وقال: الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس. والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس. وأراد بقوله: {مِن كُلّ شَيْء} كثرة ما أوتي، كما تقول: فلان يقصده كل أحد، ويعلم كل شيء، تريد: كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه. ومثله قوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْء} [النمل: 23]. {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر» أي: أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً.
فإن قلت: كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسه وأباه.
والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع- وكان ملكاً مطاعاً- فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها، وليس التكبر من لوازم ذلك، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه، وإظهار آيينه وسياسته مصالح، فيعود تكلف ذلك واجباً. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحواً من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ. ألا ترى كيف أمر العباس رضي الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)}
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة: خمسة وعشرون للجنّ، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلثمائة منكوحة. وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر. ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله، ويأمر الرخاء تسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال: لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه، ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله، خير مما أوتي آل داود {يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم، أي: توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.

.تفسير الآية رقم (18):

{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)}
قيل: هو واد بالشام كثير النمل.
فإن قلت: لم عدّي {أَتَوْا} بعلى؟ قلت: يتوجه على معنيين أحدهما؛ أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء، كما قال أبو الطيب:
وَلَشُدَّ مَا قَرُبَتْ عَلَيْكَ الأَنْجُمُ

لما كان قرباً من فوق.
والثاني: أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره، من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم. وقرئ {نُمُلة يا أيها النمل}، بضم الميم وبضم النون والميم، وكان الأصل: النمل، بوزن الرجل، والنمل الذي عليه الاستعمال: تخفيف عنه، كقولهم: (السبع) في السبع. قيل: كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس، فنادت: {ياأيها النمل}: الآية، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال. وقيل: كان اسمها طاخية.
وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً- وهو غلام حدث- فقال: سلوه عن نملة سليمان، أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل له: من أين عرفت؟ قال: من كتاب الله، وهو قوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} ولو كانت ذكراً لقال: قال نملة. وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر، وحمامة أنثى، وهو وهي. وقرئ: {مسكنكم ولا يحطمنكم} بتخفيف النون، وقرئ: {لا يحطمنكم} بفتح الحاء وكسرها. وأصله: يحتطمنكم. ولما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل: أجرى خطابهم مجرى خطابهم. فإن قتل: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت: يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والذي جوّز أن يكون بدلاً منه: أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم، على طريقة: لا أرينك ههنا، أراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه: عجبت من نفسي ومن إشفاقها.

.تفسير الآية رقم (19):

{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
ومعنى {فَتَبَسَّمَ ضاحكا} تبسم شارعاً في الضحك وآخذاً فيه، يعني أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم الصلاة السلام. وأما ما روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب، وقرأ ابن السميفع: {ضحكا} فإن قلت: ما أضحكه من قولها؟ قلت: شيئان، إعجابه بما دل من قولهما على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى، وذلك قولها: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} تعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا. وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً: من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذي هو مثل في الصغر والقلة، ومن إحاطته بمعناه، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك، وعلى استيفاقه لزيادة العمل الصالح والتقوى. وحقيقة {أَوْزِعْنِى} اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أنفك شاكراً لك. وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين، خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له، وقالوا: رضي الله عنك وعن والديك.
وروي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ، ثم دعا بالدعوة. ومعنى {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} واجعلني من أهل الجنة.

.تفسير الآيات (20- 21):

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}
{أَمْ} هي المنقطعة: نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال: {مَالِيَ لاَ أَرَى} على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. ونحوه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشرة، فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً؛ فوافى صنعاء وقت الزوال؛ وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها، فنزل ليتغدّى ويصلي فلم يجدوا الماء، وكان الهدهد قناقنه، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء، فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهداً واقعاً، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: عليَّ به، فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته. فناشدها الله وقال: بحق الذي قوّاك وأقدرك عليَّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إنّ نبي الله قد حلف ليعذبنك؛ قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أوليأتيني بعذر مبين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعاً له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه، فقال: يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله؛ فارتعد سليمان وعفا عنه؛ ثم سأله. تعذيبه: أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه. وقيل: أن يطلي بالقطران ويشمس. وقيل: أن يلقى للنمل تأكله. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: لألزمنه صحبة الأضداد.
وعن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه.
فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك. لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة: جاز أن يباح له ما يستصلح به.
وقرئ: {ليأتينني} و {ليأتينن} والسلطان: الحجة والعذر.
فإن قلت: قد حلف على أحد ثلاثة أشياء: فحلفه على فعليه لا مقال فيه، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان، حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة (بأو) في الحكم الذي هو الحلف: آل كلامه إلى قولك: ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما، وليس في هذا ادّعاء دراية، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحيٌّ من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين، فثلث بقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} عن دراية وإيقان.